دراسات
إسلامية
حكم
القروض الربوية الحكومية
(2/2)
بقلم : سماحة الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي رحمه اللّه (*)
تعريب : الأستاذ نور الحق الرحماني (*)
7 –
المعاملة المبحوث عنها ربا :
ففي
ضوء التفاصيل السابقة عندي القول الراجح ، الذي تؤيّده الدلائل والنصوص الشرعية.
ويطمئن به القلب ، هو أن المعاملات الربوية والقروض الإنمائية التي تجري حاليًا
بين الحكومة ومواطنيها يجب أن ندخلها في قسم الربا المحرم في الشرع الإسلامي . ثم
نتفكر في هذه المسئلة من ناحية أخرى ، أنه هل هناك صعوبات ومشقات ، تجلب التيسير
والسهولة في الحكم في ضوء القواعد الشرعية؟ وهل هناك فرق في مدارج الحرمة بين أخذ
الربا ودفعه ، بالرغم من كونهما محرمين ؟ فإن كان الأمر كذلك فكيف يظهر أثره على
الأحكام؟
شناعةُ
الربا :
8
– إن أخذ الربا حرام ؛ لأنه فيه يأخذ شخص مال غيره من غير عوض ؛ فأكلُ الربا أكلُ
مال الغير بالباطل ، وهو حرام لعينه . أما إعطاء الربا فهو حرام لكونه وسيلة لذلك
الحرام ، وإلاّ فليست حقيقته سوى أن أحدًا يعطي ماله غيره من غير عوض ، ولا يخفى
أن ذلك ليست معصية في أصله ، ولكن هذا العمل الساذج يتسبّب في أمر قبيح وهو إثارة
القساوة والغلظة والأثرة والاستغلال الاقتصادي في المجتمع الإنساني . أعني أنه
يفضي إلى أكل الربا الذي حرّمه الله ، وأوعد عليه وعيدًا شديدًا . فأخذ الربا
ودفعه كلاهما محرم ؛ ولكن الأوّل قبيح وحرام لعينه والثاني حرام لغيره .
من المشقة
إلى اليسر :
9
– «المشقة
تجلب التيسير»
قاعدة من القواعد الكلية التي ضبطها الفقهاء ، وهذه القاعدة تتعلق بالرخصة
والتخفيف ولها سبعة أسباب ، والسبب السادس هو العسر وعموم البلوى ، وهذا العسر
وهذه المشقة بعضها عمومي لابد من مواجهته ، وبعضها خصوصي يواجهه الإنسان في بعض
الأحيان، وهذا النوع الثاني من المشقة قد يكون خطيرًا كالخشية على النفس ، وقد
يكون ساذجًا وبسيطاً كوجع إصبع ، وقد يكون بين الشدة والسذاجة كخشية ازدياد المرض
بالصوم ، فالنوع الأول والثالث من المشقة يكون وسيلة للتخفيف والتيسير ؛ ولكن لاعبرة
بالحرج والمشقة إلاّ في المواضع التي لايوجد فيها حكم منصوص ، ولا عبرة شرعًا
لعموم البلوى في موضع النص ، يقول العلامة ابن نجيم الحنفي : الفائدة الثالثة :
المشقة والحرج إنما يُعتَبر في موضع لانص فيه (الأشباه والنظائر، القاعدة الرابعة
الفائدة الثالثة، ص:138 ، الهند) وبناءً على ذلك لا يجوز استخدام هذه القاعدة في
المسئلة المبحوث عنها .
إزالة
الضرر :
10-
«الضرر
يُزال»
قاعدة هامة من القواعد الفقهية ، وهي مأخوذة من الحديث النبوي : «لاضرر
ولاضرار في الإسلام» وتتعلق بهذه القاعدة
الكلية قواعدُ ضمنية عديدة ، منها القاعدة الأولى : الضرورات تبيح المحظورات»
، وصرّح «الحموي»
أن للضرورة خمسة مدارج : الأول الضرورة ، والثاني الحاجة ، والثالث المنفعة ،
والرابع الزينة ، والخامس الفضول .
فالمراد
من الضرورة : بلوغ احتياج الإنسان حَدًّا لولم يتناول الحرام هلك أو قارب ، فذلك
يبيح تناول المحظور .
ولو
لم تبلغ الحاجة هذا الحد ؛ ولكن كانت بحيث لولم يتناول المحظور وقع في ضرر ومشقة
فهي الحاجة ، وهذا لايُبيح الحرام ؛ ولكنه يكون سببًا للتخفيف في العبادات ، مثلاً
إنه يُبيح الفطر في الصوم. والمراد من المنفعة : اشتهاء المرء المستوى الأعلى من
قدر الضرورة في الأكل والشرب والحوائج الأخرى مثلاً الخبز واللحم طعام ؛ ولكن
النفس تشتهي أن تأكل خبز البُرّ ولحم الغنم .
والمراد
من الزينة : التنوع والتجدد في المأكل والمشرب ، والملبس والمسكن ، وهذه الدرجة
أعلى من المنفعة .
والمراد
من الفضول : الميل إلى التنعم والتعيش، بحيث لايميّز بين الحلال والحرام
والمشتبهات .
درجات
الأحكام :
قال
الحموي : ههنا خمس مراتب : ضرورة ، وحاجة ، ومنفعة ، وزينة ، وفضول . فالضرورة :
بلوغه حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب ، وهذا يبيح تناول الحرام . والحاجة
: كالجائع الذي لولم يجد ما يأكله لم يهلك ، غير أنه يكون في جهد ومشقــة ، وهــذا
لايبيح الحــرام ويبيح الفطر في الصوم . والمنفعــة : كالذي يشتهى خبز البر ولحم
الغنم والطعام الدسم . والزينة : كالمشتهي بحلوة السكر. والفضــــول: التــوسع
بأكل الحـرام والشبهة. (حاشية الحموي على الأشباه والنظائر / 108 ط نول كشور)
ولايخفى
أن الإسلام لايسمح بالفضول بحال من الأحوال ، ولايبيح التنعّم والتلذذ في الحياة ،
بحيث يتجاوز حدود الحلال والحرام والمشتبهات ، وكذلك ليست المنفعة والزينة في
الشرع الإسلامي مما يبيح الحرام ؛ ولكن الضرورة والاضطرار يبيحان الحرام .
والحاجة
لا تبيح الحرام في عامة الأحوال ، غير أن الحاجة – عامة كانت أو خاصة – قد تتنزّل
منزلة الضرورة ؛ ولذلك أباح الفقهاء الاستقراض بالربح لمن لايجد سبيلاً لسدّ
حوائجه ، وكانت مما يوقع صاحبها في حرج ومشقة شديدة .
القاعدة
السادسة من الخامسة : الحاجة تتنزل منزلة الضرورة عامة كانت أوخاصة ، ولهذا جُوّزت
الإجارةُ على خلاف القياس للحاجة ... وفي «القنية
والبغية»
: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح (الأشباه، ص 137 باب الكراهة ، البحر الرائق
6/137)
خلاصة البحث
:
ففي
ضوء الأصول السابقة نستطيع القول بجواز الاستقراض بالربح لذوي الحاجة من الأفراد
والجماعات إذا لم يجدوا سبيلاً إلى قضاء حوائجهم بغير ذلك ، والحاجة من نوع توقع
صاحبها في حرج ومشقة ، أما أخذ الربا فإنه حرام على كل حال .
وليُعلم
أنه لايُفتى بجواز الاستقراض بالربح للناس جميعًا على الإطلاق ، بناءً على هذا
الأصل . سواء كانوا محتاجين إلى ذلك أولا ، وسواء أرادوا بهذا الاستقراض الإضافة
إلى تنعّمهم وتعيّشهم ، وسواء أرادوا صرف المال في الإسراف والرياء والسُمعة ، أما
الاحتياج والاضطرار فله حكم آخر.
وتبيّن
من هذا البحث كذلك أن يباح الاستقراض بالربح عند الضرورة من غير المسلمين ، ولكن
لاتجوز هذه المعاملة الربوية فيما بين المسلمين؛ لأنه كما : يحرم على المسلم أكل
الحرام ، كذلك يحرم عليه إطعام غيره من المسلمين الحرام .
الفرق
بين قروض الحكومة الربوية وبين القروض العامّة :
1-
ولكنني أرى أن هناك فرقًا كبيرًا بين القروض الربوية العامة والقروض الربوية التي
تُستَقرضُ من الحكومات . ولابد في هذا الخصوص من اعتبار أمور :
للحكومة
موارد مالية عديدة :
(الف)
الضرائب التي تضربها الحكومة على مواطنيها في صور مختلفة ، سواء كانت إتاوة ، أو
مكوسًا تُفْرَضُ على البضائع التجارية المختلفة وهي (Import) ، أو (Export) ، أو الرسوم
الإنتاجية التي تُفْرَضُ على الحوائج المختلفة .
(ب)
الإيرادات التي تحصل للحكومة بالتجارة بطريق مباشر (Public Sector) .
(ج)
المبالغ التعاونية والأموال الخيرية والقروض المختلفة – ربوية كانت أو غير ربوية –
التي تمنحها الدول الأخرى للحكومة لمصارف خيرية مختلفة .
(د)
الموارد الطبيعية التي تُعْتَبر ملكية الحكومة، كالدخل الذي يحصل للحكومة من
بصحاري والمعادن .
نوعية
الحكومة الهندية :
2-
نظام الحكم في الهند ديمقراطي ، وهو في الأصل نيابة عن الجماهير (Representative System of
Govt.)
أعني أن :
(الف)
الشعب ، هو مصدر جميع السلطات والاختصاصات .
(ب)
وحق التصويت فيها لكل عاقل وبالغ من المواطنين .
(ج)
الناخبون البالغون المنتشرون في طول البلاد وعرضهاقُسّموا إلى أكثر من خمس مائة سهم.
واعتُبِرَ كلُ سهم منهم وحدة ، وكل وحدة منها تنتخب لها ممثلاً بكثرة الآراء .
(د)
والحزب الذي يشتمل على الأكثرية من أولئك والممثلين – أعضاء البرلمان – البالغ
عددهم أكثر من خمس مائة ، هو يتولّى إدارة الحكومة وانتخاب مدار المهام – أعني
رئيس الوزراء – من أعضائه وتشكيل الهيئة الإدارية للحكومة بواسطة .
(هـ)
وهذه الحكومة تكون مسؤولة عن فرض الرقابة على الموارد المالية ، وتحديد مصاريفها
ووضع الخطة لها أو تنفيذها ، نظرًا إلى مصالح الشعب في ضوء دستور الهند .
(و)
ونفس الصورة تكون في مجلس النوّاب للولاية في حدود الحكومة الإقليمية واختصاصاتها
.
3-
من المسلّم أن الشعب والجماهير، هم الذين ينتفعون بالموارد المالية للحكومات
الجمهورية مبدئيًّا ، وكذلك المسؤوليات التي تقع على الحكومة الجمهورية (بصدد أداء
الديون والفوائد وما إلى ذلك) تقع مسؤولية أدائها في الحقيقة على الشعب بطريق غير
مباشر .
4-
وخزينة الحكومة تُعْتَبر خزينة الجماهير، ولذلك يجمع جميع الدخل والإيرادات في
الحسابات الشعبية .
5-
وهناك ينشأ سوال وهو أنه من يملك هذه الخزينة الوطنية ؟ إني أظنّ أن الوحدة التي
تشتمل على مواطني الهند ، هي التي تملكها من حيث المجموع (Nation) ، ولا يملكها فرد معيّن على سبيل الإنفراد .
فالحاصل
أن مجموعة من الأفراد تملك خزينة الحكومة من حيث المجموع . وهذه المجموعة هي التي
تفوّض مسؤولية التصرف فيها إلى الهيئة الإدارية للحكومة على أساس الخطة الموضوعة
لذلك . ولكن الجماهير لايملكونها على سبيل الانفراد ، ولذلك سلّمت حقوق الملكية
الفردية مع الحقوق الاجتماعية في هذه الحكومة (غير أن الحكومة حصلت أخيرًا على
سلطة قصر حقوق الملكية الفردية بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان ، وهذا الاتجاه لايزال
يزداد يومًا فيومًا) . وكذلك يوجد الإذن في الدستور للمعاملات التجارية الشخصية مع
المعاملات الاجتماعية (Public Sector) وقد تقوم الحكومة
بتشجيع المعاملات الفردية .
6-
وقد أوضحت من قبل أن مواطني الهند لايملكون خزينة الحكومة على سبيل الانفراد ؛
ولكن لكل فرد من أفرادها حق الانتفاع من الخزينة العامة ، ودستور الهند يعطي جميع
سكانها حق الاستفادة من خزينة الحكومة حسب القواعد المقررة لذلك .
7-
أما مسئلة تعلق حق الإنسان بشيء من غير أن يملكه فنجد نظيرًا لها في القانون
الإسلامي ، وهو أن حق ورثة الميت يتعلق بثلثي ماله في مرض وفاته ، بالرغم من أنهم
لايملكون مال مورثهم في حياته ولايجوز لهم التصرف فيه .
وكذلك
المساجد والشوارع والأنهار وغيرها من المؤسسات الخيرية وأمور الفلاح الاجتماعي ،
لايملكها فرد بعينه شرعًا ؛ ولكن يثبت للعامة والجماهير حق الانتفاع بها . ومن
نظائرها – كما أظن – الوقف على الأولاد ، حيث لايكون لواحد منهم أن يتصرف فيه
كالمالك ، الذي يملك بيع ما يملكه من الأشياء وغيره من التصرفات ؛ ولكن يحصل حق
الانتفاع به لكل واحد منهم حسب تصريحات الواقف .
8-
فعندي خزينة الحكومة ثروة مشتركة يستحق المسلمون أن يستفيدوا منها كغيرهم من
المواطنين . وبناءً على ذلك يجوز للمسلمين أن ينتفعوا بالأموال التي تخصّصها
الحكومة في ميزانيتها للمشاريع الإنمائية ، كبناء المساكن وتنمية التجارة والصناعة
والحرفة والقضاء على البطالة .
9-
ولكن المشكلة هي أن المرء المسلم حينما ينهض للاستفادة من تلك المشاريع الإنمائية
وللحصول على حقه يرى نفسه أمام مشكلة كبيرة، وهي أن الحكومة وضعت أساس نظامها
الاقتصادي على الربا . ولاتخلو مشاريعها الإنمائية كذلك عن الربا (والحال أن
المسلمين لايقدرون على تغيير هذا النظام ، لكونهم أقلية ، غير أن كل مسلم مكلف
ببذل الجهود لتغيير هذا النظام الفاسد بقدر الاستطاعة بناءً على توجيه رسول الله ﷺ
: من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده ، وإن لم يستطع فبلسانه ، وإن لم يستطع فبقلبه
– الحديث متفق عليه) فهذا النظام الربوي يمنعه من الاستفادة . فالسؤال هنا هو أنه
هل يجوز للمسلم دفع الربا عند الضرورة للحصول على حقه المشروع عند الاضطرار أم لا؟
10-
والجواب عندي بالإيجاب . فيصح القول بأن للمسلم رخصة لإعطاء الربا عند الضرورة
لتحصيل حقه المشروع . ونجد نظيره في الشرع ، لأن الأصل العام للشرع هو أن «ما
حرم أخذه حرم إعطائه» . ذكر العلماء تحت
هذا الأصل أن الرشاء والارتشاء كلاهما محرم ؛ ولكن إذا لم يمكن الحصول على الحق
المشروع ، فيُبَاحُ حينئذ دفع الرشوة . ذكر العلامة نجيم الحنفي في كتابه الشهير «الأشباه
والنظائر»
الرشوة تحت القاعدة الرابعة عشرة وهي : «ما
حرم أخذه حرم إعطاؤه» واستثنى منها
الرشوة لخوف على ماله ونفسه ، فقال:
إلاّ
في مسائل الرشوة لخوف على ماله أو نفسه (قوله الرشوة لخوف على ماله) هنا في جانب
الدافع ، أما في جانب المدفوع له فحرام ولم ينبه عليه ، وينبغي أن يستثنى الأخذ
بالربا للمحتاج فإنه لايحرم كما صرّح به المصنف في البحر ، ويحرم على الدافع
الإعطاء بالربا (غمز عيون البصائر شرح الأشباه 1/449) .
خلاصة
المباحثِ السابقة أن :
(الف)
أخذ الربا حرام على كل حال .
(ب)
وكذلك دفع الربا حرام إلاّ أن يكون شخص في حاجة لو لم يستقرض بالربح لوقع في مشقة
شديدة فيرخص له بذلك .
(ج)
أو يكون شخص في حالة إن لم يدفع الربا لحرم من حقه المشروع ، فيباح له أن يدفع
الربا لتحصيل حقه المشروع .
ففي
ضوء المباحث السابقة يكون جواب الأسئلة المذكورة في الاستفتاء كما يلي :
1-
يجوز .
2-
يجوز .
3-
لايجوز الإقراض بالربح في أيّ حال ، ويجوز الاستقراض بالربح لمحتاج بلغت حاجته
حدًّا إن لم تُقْضَ لوقع في مشقة شديدة ، ولاسبيل له لدفع حاجته سوى الاستقراض
بالربح فيُباح له الاستقراض بالربح من غير المسلمين بقدر حاجته ، وليعلم أن مستوى
شدّة الاحتياج لايكون واحد للجميع ؛ بل يختلف باختلاف الطبائع وقوة الصبر والتحمل
في الأفراد ، والرأي القطعي الحاسم في هذا الخصوص يكون للمبتلى به .
4-
لايجوز .
5-
يجوز .
6-
لو كان أحد في حاجة إلى إبداع النقود في البنوك بهذا الطريق (حساب إيداع) يجوز له
ذلك . ولكن يجب عليه أن يتصدّق بالفوائد من غير نية الثواب – والله تعالى أعلم .
* * *
* *
مجلة الداعي
الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ =
يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.